top of page

 

عندما كنّا نغنّي

 دَبْ المدفع دَبْ، دَبْ

 

 

 

بينما كنّا نعود كانت شمس الغروب تَهْبط رويداً رويداً وراء الجبال التي خبأت وراءها البحر الميت، كما تخبئ حبيبة منديلها الذي قبله ذات يوم ثغر الحبيب. بدأت ملامح ولدُ الليل تلوح شيئاً فشيئاً. الأعمام أودعوا الشياه والأبقار وباقي البهائم في الحضائر، ثم راحوا ليغتسلوا عند (الحنفية) التي انتصبت عند السياج الصخري الذي اعتلته قباب روث الأبقار الجاف تهيئاً لاستخدامه وقوداً في الشتاء، إلى جانب أكوام الحطب الذي عندما كانت تجيء به جدتي (حميدة) نحسبها وهي تمشي حقل حطب يسير. راح الأعمام: ضيف الله، وحجاب، وعبدالله، ومنصور يتراشقون بالماء الذي كان يدفق من فم صنبور الماء كصرخة راع على شياهه، كانت ضحكاتهم تتعالى في فضاء المكان وقد خلّفوا وراءهم يوماً حافلاً بالتعب. جدتي (سلمى) تحمل صينية أثثتها بالخضار المقطعة والطحينة، واتجهت صوب الطابون الذي خبأه منحدر جنوبي البيت، بعصاً تسمى (المفهاد) حرّكت الجمر الذي لفحت وجهي حرارته، إذ أبعدتني جدتي (افتهج ورا يا جديدي) فاتخذت لي حجراً وجلست عليها، إذ رأيتها تضع الصينية في الطابون وتغلقه.

في المطبخ، الذي انحنى إلى اليمين من شمال الغرف الثلاث التي إضطفت إلى جانب بعضها البعض كرعاة بكامل فتوّتهم، كانت جدتي (حميدة) زوجة جدي الثانية تعد باقي الطعام، طبقاً كبيراً من سلطة الطماطم البلدية بالبصل والزيت البلدي، إلى جانب طنجرة من شوربة العدس. على زاوية السور، كانت جدتي وزوجة جدي الأولى (سلمى) قد وضعت إناءً عصرت به حبات ليمون أضافت إليها السكّر وبعض شرائح الليمون.

من (البستان) الذي انتشرت به أشجار العنب والرمان و التين و الزيتون،

إلى جانب أشجار أخرى، خرج جدّي (أبو عارف) يحمل في (شليله) أي في

طرف ثوبه، بضع قطوف من العنب الأخضر الذي بدت حبّاته ككواكب

خضراء، ثم  أخرج (الدلو) من  قعر  البئر الذي اكتنز جوّاه ماء بارداً رقراقاً،

ووضع ثمار العنب في (الدلو)  و أنزله  ثانية  في الماء، ليكون  بارداً بعد

الإفطار.تهادى إلى (الحنفية) ملأ إبريقاً أخضراً،  بالماء  من (الحنفية) ثم

هبط إلى شجرة الزيتون التي انتصبت عند زاوية البيت  الجنوبية،  هناك

خلع نعله وراح يتوضاً، إذ  كان  الماء  يسيل  على إلى تلك الحفرة التي

استدارت حول جذع الشجرة، كان وجهه مليئاً بالوقار، وهو يطلّ على الشمس التي ماتبقى سوى طرفها وهو تستحيل إلى قرص ذهب لحظ المغيب.

دب الهدوء في المكان، وخفتت الأصوات لتي كانت تحدث صخباً ما قبل لحظات من تلك اللحظة. بدأت جدتي (حميدة) وجدتي (سلمى) والعّمات بتهيئة المكان للتناول طعام الإفطار، جلس جدي على فرشته الصوفية يجهز بضع سجائر من تبغه( الهيشي) ويحرك بضع جمرات تحت أباريق القهوة والشاي التي وقفت في صحن (الكانون). من بيتنا نادت أمي لكي أنضمّ إليهم لسفرة الإفطار، رغم أنها تعلم أنني لن أجيء بما أن جدي هناك. ضحك جدّي وربتَ على كتفيْ.

على الربوة الصغيرة التي تطلّ على المدينة مادبا وقفتُ أراقب مئذنة المسجد وهي ترتفع في السماء كيد فلاح أعلن انتصاره على الحياة. صارت اللحظة أكثر سكوناً واختفت الأصوات تماماً، ودبّ الليل يدهن وجه الكون بالعتمة فنهضت قناديل الكاز بإضاءاتها وهي تتناثر هنا وهناك كبثور بيضاء على ظاهر يد سمراء.

نادى صوت (أبو حسين) للصلاة ثم أشتعلت مصابيح مئذنة المسجد. من جسد القرية جاء صوت الصغار محتفلاً (ولعت المنارة، ولعت المنارة) من قرب مخفر مادبا الغربي، انطلق صوت المدفع وقد هجم صداه سريعاً في الهواء الساكن؛ فجاء صوت الصغار مرة أخرى: "دب المدفع دب دب ، دب المدفع دب دب"، فساد الصمت مرّة أخرى؛ إذ كانت لحظة مليئة بالسكينة القروية التي تعلن تصالح فريد مع الذات والعالم.

 

 

 

bottom of page