top of page

 

مَعَان، جنوب القلب، وقلب الجنوب

 

 

 

 

طريق إلى معان

 

 

 

الطريق طويلة إلى معان، كصدى لحداء رجل بلل قلبه الحب فراح يغني. طويلة لكنها سهلة، سهولة ظل الحبية على القلب. سهلة وأنت تيمم مدينة تمتد في أتون الرمال، التي دوماً ترفع ذاكراتها الخرافية وتحفظ كما ينبغي شكل الذكريات ووقعها. المدينة التي عجنها التاريخ كما ينبغي للمدن العريقة. تلك التي تصّاعد منها أشجار النخيل التي تبدو كما لو أنها قامات فرسان يحرسون المكان جيداً. الطريق صحراوية إلى معان، لكنها وافرة على الروح، خصبة وأنت تسمع ما تبادر للمدى من حكايات الحجيج، ومن وقع سنابك الخيل على بطن الرمال، وهي تسرد للريح صهيلها. الطريق إلى معان، طريق إلى الجنوب.  والجنوب دوماً منارة لإضاءتها في القلب انعكاسات خصبة، تدلّك كلما لمسَ التيه حافّة القلب. وتدل القلب إلى هناك حيث تسحبك المدن الجميلة من ياقة روحك وتدلّك إليها بطريقتها الخاصة .

 

يوم أتيتها قبل ثمانية عشر عاماً، كنت ما أزل تحت وطأة بقايا لقصة حب فاشلة، والقلوب البدوية يلينها الحب والشِّعر. كنت ما أزل عند تلك الكوّة التي تفضي للقصيد، بينما كنت أرى الريح قصيدة تعصف بي. في ذلك اليوم كان علي المرور من " معان" باتجاه الصحراء الشرقية، حيث عملي هناك وسط مزاج الصحارى التي تعقد مع الشموس صداقة يعرفها العربي أكثر مما يعرف، نفسه. كانت الحافلة تلتهم الطريق الإسفلتي بنهم وهي تيمم الجنوب. من مسجلة في الحافلة كانت تجيء تلك الأغنيات الجنوبية التي تهزّ نياط القلب، وترشّ رذاذاً على جفون البال، فيهدأ القلب ويستريح. لكن تستشيط الذاكرة بتباريحها،  بأغنياتها الطوال. وفي البال قصيدة قالها الجنوبيٌ ( تيسير سبول) ذات لوعة جنوبية، عندما كان يغذ خطاه على الرمال العربية وهو يحكي لعصافير البال  قصيدته (أحزان صحراوية)

 

 

" سار في عينيه وهجُ الشمس

 

والرمل وعود برمال

 

ومدى الصحراء صمتٌ

 

وعذابات ارتحال

 

فتغنّى

 

وسرى الصوت على مدّ الصحارى العربية

 

مودعاً في الرمل غصّات أغانيه الشجية "

 

 

في الطريق إلى معان كانت ذاكرتي تلملم ما قاله الأقربون لي عن تلك المدينة التي انتبذت لها مكاناً في القلب، كانت ذاكرتي تلملم الحكايات، والأغاني، والأهازيج، وطقوس" السحجات" التي عرفتها الليالي المَعانية كما يعرف العاشق سر قلبه. 

 

عندما عبرتُ باب المدينة بينما الشمس في تلك اللحظة تهوي وراء الرمال بوجهها الأرجواني كامرأة داهما الرعاش ، كنت قد قرأتُ عبارة عبر نافذة الحافلة، ، كُتِبَت بخطٍّ عريض ( معان في القلب)  كان عليّ في تلك الليلة أن أعبرها ميمماً شطرَ الصحراء الشرقية، لكنني أرحتُ أبلي، إذ قلت لصديقي وأنا هزّ غصن نخلة من نخيل ( القصايل) بعد سيل من الحكايات:

 

معان في القلب ، نعم في القلب يا صديقي

.   

 

 

"معان" نخلة وجهتها الغمام

 

 

 

الفرق بين المدن الكبيرة وبين الصغيرة منها؛ أن الصغيرة تَلِج القلب بسرعةٍ، تماماً كالحب الأول؛ منذ النظرة الأولى، اللمسة الأولى، الشهقة الأولى. هكذا قلتُ لنفسي وأنا أترك مَعانْ والحافلة تستبيح امتداد إسفلت الطريق الصحراوي باتجاه عمان. كان ذلك قبل ثمانية عشر عاماً، والآن يمسك بي الشوقُ من ياقة روحي ويُيَمِّمُني شطرَ الجنوب؛ الجنوب، الجنوب مرة أخرى

 

*     *     *

 

عندما عبرتُ بوابتها للمرة الأولى - وبوّابات المُدن دليلهن- كان النهار يلملم حقائبه للرحيل، بينما المساء يقف في شرفة الانتظار، وكنت أفتش عن بيت صديقي" نايف يوسف الحميدي" إذ  كانت لكنتي تعلن بأنني لست من قاطني هذه المدينة، حيث كان "المعانيون" يتجادلون فيما بينهم على استضافتي في تلك الليلة، بأصواتهم الجهورية حدّ النزق، بكرمهم العالي حدّ الانحناء لهم، ومعان – كما سمعتهم يرددون فيما بعد بأفراحهم:

 

 

" بنت طموح عيّت عليها رجالها"

 

 

سُميت (معين) وفي ذلك إشارة للمياه الجارية، والماء حري بمعان التي إن صعدت أشجارُها تصعد خضراء لبلابة وخضراء حد الانبهار، ففي علوم الأولين لطالما تغنوا بثمارها التي أخذت حقها من الوصف، مثلما قال "جورج أوغست فالين"  (( وهنا تزرع أشجار مثمره أهمها الرمان المشهور بأنه أطيب مما تنبت الأرض))

 

*     *     *

 

من بعيد- بينما الحافلة تمخر عباب الرمال التي عقدت صداقة أزلية مع الشمس -لاحت لي معان؛ ونخيلها الباسق يصعد درجَ الهواء من الحقول، التي طاب لأهلها أن يسمونها (قصايل)، لاحت في تلك اللحظة وهي تنهمي على أطراف الرمال كفكرة عربية خالصة بامتياز، وذاكرتي تستعيد أغنياتهم التي أنجزتها حركة الزمن في نبض المكان:

 

 

شباب قوموا العبو والموت ما عنه         والعمر  شبه   القمر  ما  ينشبع   منه

 

يللي قاعدين كليكوا ربي   يهانيكم         والطير   الاخضر  يرفرف  من  حواليكم

 

والله   لولا  يقولوا   الميتين قعود          لسمسم الرمل واطلع صاحبي من الدود

 

 

صعد القمر لمنتصف السماء بهياً وباسماً بسخاء لا مثيل له، واستشاطت في المكان نسمةٌ نهرَت الروحَ أن انهضي واستشيطي؛ فهنا مكان حريٌ بالزفير وبالتنهد كما ينبغي, إذ مشينا في تلك الليلة ولجين القمر يمنح اللحظات لغة الفضة، ومجازات المجرة التي لا تتبدل أبداً، إذ نثر القمر بوحه على المنازل التي بدت غارقة في سكينة لا تعرفها سوى المدن المتاخمة للصحارى.

 

  ومعان كحبات لؤلؤ تناثرت في كف السخاء، ببيوتها التي اتخذت مزاجاً عمرانياً مختلفاً، بطرقاتها التي تقتاد زائريها دوماً إلى ( الهلا والهيل ) - حيث أن قهوة معان شقراء كحركة اللون في مزاج الصحارى-  بنخيلها الذي عقد قرانه مع الريح، بينابيعها التي شقت صدر الرمال وانتهكت حرارة الشمس وشبقها بحيث صعدت رقراقة تقف بوجه العطش  فاطقلوا على إحداهن اسم " نبعة الضواوي" التي سميت بهذا الاسم لشدة صفائها ، حيث يقولون إنها (تضوي ضوي)

 

"ومعان في القلب" لأنها من المدن التي تطرق القلب وتعبر بابه دون استئذان. قلت ذلك لصديقي ونحن نستثمر اللحظات جلوساً في الشرفة التي تطل على المدينة. قال لي ونحن نستجر خبز الكلام أن معان غشاها في  11/3/1966 م سيل مسح كل شيء لكنها عادت كما لو أن ذلك السيل لم يأت من قبل. ومعان تاريخ ناصع في دفتر التاريخ أحبها الملوك والأمراء، عشقها العابر والمستقر. معان تلك المدينة الوحيدة في العالم والتي تجمع مزاج الصحارى بمزاج المدنية بحيث نلمس الأصالة والمعاصرة في آن واحد، تحمل في جعبتها تاريخ عريق بدايته منذ زمن بعيد؛ ومازال هذا التاريخ مستمراً بحركته الدؤوبة في فضاء الزمن.

 

* * *

 

 

في الصباح حملت حقيبتي وخلفت "معان" ورائي، إذ بدت لي- وأنا انظر إلى الوراء بينما الحافلة تستبيح سواد الإسفلت الراكض إلى الشمال- كأغنية شجية،  يرددها كهل طاعن في الحكمة على كتف الرمل وفي وضح الشموس.

 

 

 

 

 

 

bottom of page