top of page

 

في "وسط البلد"

جئتُ هنا لأتَذَكَّر....جئتُ هنا لأعيش

 

للأماكن أسماؤها، والأسماء مصائر، تتبدل، كما تتبدل نضَارة وجوهنا، طريقتنا في اللباس، لكناتنا،  رغباتنا، الحبيبات، شكل الغيمة في سماء مديني، طعم الفاكهة ونكهتها.

 للأماكن أسماؤها المتعاقبة، المتبادلَة، المتبَدَلة،  كوجه الحضارات، كدورة الأرض، فينا، في دمائنا، في أسمائنا، في بؤبؤ العين ونحن نرنو للبعيد، للماضي، للقادم من فَراش الوقت؛ تتبدل الأسماء، لكن القلب. قلب أي شيء.  يبقى على حاله، كتعويذة في جيد عجوز غارسة في تفاصيل ترقد في نخاع ذاكرتها.

 وقلب عمان على حاله، تبدلت الألوان، اللكنات، الأغاني، شكل الكتب ومضامينها، القصائد، لون الهواء، طعم الماء، كل شيء تبدل، لكن لب المكان كما هو، بوقعه الواضح، وضوح المدن التي يعجنها التاريخ على مهل، ويسوي من عجينها خبز اللحظات.

مشينا هنا، ذات جنون لا يساويه غير جنون القصيدة ذاتها.  كانت حبيبتي حدَّ الموت في غيابها  " هل أنا ميّت؟ هل أنا حي؟ هل أنا هالك، هل أنا واقف في عقر قامتي؟ " والمكان حبيب وفيّ يسجلّ بحبر خفيّ وَقع اللحظة في بور القلب.  كنتُ حبيبها حدّ العدم دون انصهارها بي " هل هي ميتة؟ هل هي حية؟ هل هي غيمة؟ هل هي رذاذ؟ " والمكان قلب لا ينسى، المكان قلب يأسى، يبكي المكانُ, ويصهل بالفرح. المكان عُشّ الذكريات ومرقد الحنين. هنا مشينا، شربنا ماءَ الأغنيات، شبعنا خبزَ الكلام على طبق الزحام، ثملنا برعشة كهرباء القلب وهي تركض باشتهاء بين احتكاك باطن اليد بالأخرى، وعرَقٌ خفيف بارد يدلف، نقطة، نقطة، على جسد الرصيف يشيْ بنا.

 

" أمشي على وقع الذكريات

أمشي على نبضي الآن

والمكان على جسد اشتهائي يَعُدَُ خُطَاهْ

خطوة خطوة

تتبدلَ الأسماء في لحظاتنا

تتبدل اللحظات في أسمائنا

ويبقى في سهوب القلب

نبض إيقاع أثيري

يحوم في فضاء أثيري يردد

أسماءه الغائبة

يردد اسمه الجديد "

 

 هنا أقف الآن، هنا يقف المشهد الآن معي ويمنح روحي وردة الذكرى. والزحام في "وسط البلد" مشهد لحياة تجيء الآن على كفّ (شوبان) وانتباه البيانو:

بسطات بانورامية  لكتب في الأدب، الحب، السياسة، الطبخ، الأبراج، تفسير الأحلام، كتب في الدين على الطريقة الوهابية الجديدة القديمة، بائع ساندويتشات الفلافل الذي بات يتفنن في شكل الحَبَّة وحجمها، متجر يعرض عصافير في أقفاصها للبيع واللون والجناح حبيس القفص، محال تبيع الأدوات الموسيقية، والعود تعزفه أنامل نسمة هواء مدينية، محال تعرض النرجيلة وأصناف المعسل الذي يهجم عليك بعبقه النفاذ، محال "البالة" التي هي الأخرى تمتلك وقعها الخاص برائحتها المميزة وشكل الملابس بها وموديلاتها، البسطات التي تبيع سلعاً ومتفرقات بأسعار زهيدة، مكان بائع الفستق الأفريقي بسمرته التي لا تتلاشى من وهاد الذاكرة، وصورته معلقة قرب مكانه الذي خَلَِفه في ولدُه إثر رحيل إلى حيث يرحل الأنقياء، بائع السوس والتمر الهندي الذي يحارب وحوش الظهيرات الحارقة بمهارته في ابتكار العصائر، كشك الكتب الذي يقف أمامه ويدور حوله " أبو علي" بنظارته التي ترتكز على مقدمة أنفه، وهو يرُد السلام بكلمات خفيفة لكنها أكثر صدقاً، المقاهي العتيقة التي مازالت تُعلي من نبضها في جسد المكان، رغم التحولات والتبدلات،  كتب وأشياء لأنظمة ترجلت عن صهيل  أحصنتها، عملات غير متداوَله تباع بالكيلو، مطعم هاشم الذي صار محجاً لمن يرغب في تتبع حياة البسطاء وملامح وجوههم التي تُشبه دفتر شاعر فقير، امرأة تفاوض تاجراً على سعر منديل تقاطع به الأسوَد بالأزرق السماوي، شاب يشهق بعطر ولّفه له صاحب متجر تركيب العطور، فتاة تداري ثوبها الذي انحسر عن نهدين من مرمر أمام شاب يزفر بالرخام، شيخ يعزف بعكازه على جسد الإسفلت طقطوقة من وقار، شاعر يحلم بقصيدة كونية وهو يمشي الهوينى في الزحام، وجوه باسمة، وجوه هدها التعب، وجوه تبحث عن وجوه، وجوه وجنسيات عديدة، لغات عديدة، لكنات عديدة، روائح تتقاطع يبعضها البعض، رائحة "الجاكومو" برائحة السمك المضمخ بالثلج، رائحة الجوافة برائحة الأجساد المليئة بالاشتهاء، رائحة المسك برائحة سيجار كوبي مُقَلَّدْ، تواريخ تتمازج ببعضها، أفراح تختلط بأحزان متسكعين على قارعات الزحام، توسلات متسولين تتقاطع بأشكال الأنين. ملامح شرقية، غربية، شمالية، جنوبية. .... والمشهد فسيفسائي يولِّف نفسه في موجات البال، ويقرص خدَّ القصيدة:

 

" حُشْ بي، يا مُهْرَ الزحام ظباءَ الذكرياتْ

ولَمْلِمْ

 يا بابَ المدينة آخِرَ الأنفاسْ

رئتاي ضيقتان

رئتاي صارتا ضيقتين

مراياي مشظاة

ومرآة الشوارع تُحيْلُني للشهيقْ

أعْرِف بحكمة البدوي في أنامل الروحِ

أن الشوارع ماءَ العطاشى للحياةِ

ورثمَ المترفينَ بوقع الحنينْ "

 

أذوْب في فناء المشهد، أتماهى به، أصير كقطرة زيت في صحن دقيق، يندحر المكان في أناملي، أرفع يدي للهواء، ألمس جسد الوقت، أغمض عيناً وأفتح الأخرى ليتقاطع الماضي بالحاضر، فأمشي والمشي في "وسط البلد" تماماً يشبه المشي بين مفردات قصيدة وُلِدَت فجأة، فيجيء الانتباه على مَحْمَل السهوّ. أطلّ ورائي، أطلّ أمامي، يميني شمالي، أحس بأنني حيّ ههنا، أعزف موسيقاي التي أريد، أرسم لوحتي التي أحب.

 

 جئتُ هنا لأتذكّرْ

كنتِ تغْزلين روحي بمغزلكِ الرخامْ

فأنتشي وأصعد في الريحِِ، وقد صرتُ بيرقاً من غمامْ

جئت هنا لأعيشْ

أنتِ الآن معي

كرسيّكِ شاغر في المقهى

فنجان قهوتكِ يحاور فنجانيْ

ونتَف الصوف التي على ذقن الطاولةِ مازالت هنا

مازالت هناك

 جئت هنا لأتذكرْ

 جئت هنا لأعيشْ

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

bottom of page